عشر سنوات بعد الاحتلال: هل يستطيع العراقيون التعايش فيما بينهم؟

المقاله تحت باب  قضايا
في 
12/04/2013 06:00 AM
GMT



عن (نقاش) 
اختلف العراقيون حول تسمية التغيير عن طريق الآلة الحربية الاميركية، فبعضهم أسماه احتلال وآخرون يطلقون عليه مصطلح "التحرير"، لكن نتائج هذا التغيير على التعايش في العراق كان أقسى من عقود طويلة من محاولات القمع الذي مارسته الأنظمة.
 وطبقاً لاختلاف التسميتين من حيث المضمون حمّل بعضهم السلاح ضد جيشٍ يحتل بلادهم ومارسوا لعبة العنف والعنف المضاد، في حين ركب آخرون القطار الأميركي للوصول إلى السلطة، وانكروا بعد ذلك ان للولايات المتحدة فضل في تخلصهم من دكتاتور بحجم صدام حسين.
وبعد مرور عشر سنوات على اللعبة نسيّ العراقيون الحرب ضد أميركا وحربها ضدهم، وأعلنوا حرباً جديدة ضد بعضهم البعض، صراع  لا هوادة فيه على أشلاء بلد منقسم على ذاته ولم تتحدد هويته بعد فهل سيكون دولة دينية على غرار إيران أم دولة محاصصة على النمط اللبناني أم دولة برأس ضعيف وأطرافٍ قوية؟.
 
 
 
اليوم أصبح جلياً إن الأميركيين لم يفعلوا شيئا لإعادة بناء عراق جديد،فكل مافعلوه هو إزالة الغطاء عن قدر الطبخ لتنبعث منه كل التناقضات المكبوتة طوال عمر الدولة العراقية القصير، حتى بات العراقيون يعيدون تعريف أنفسهم في سياق جديد، فهم أثنيا أكراد وعرب وتركمان وكلدو آشوريين، ودينياً مسلمون ومسيحيون ومندائيون وآيزديون، وهم مذهبيا سنة وشيعة وتقسيمات أخرى لا تنتهي.
العراقيون يخافون هذه التعددية أكثر من خوفهم من الصواريخ عابرة القارات وأكثر من جميع أسلحة الدمار الشامل، وأكثر من خوفهم من الدولة الصفوية والدولة العثمانية وبريطانيا وأميركا، لأنها ببساطة تطرح على الدولة سؤالا صعباً حول كيفية إدارة هذه الجماعات المتنوّعة بعدالة.
تاريخ العراق الحديث منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 يوضّح طبيعة المقاربة التي تبنّتها الدولة العراقية منذ ذلك الحين لترويض هذا التنّوع الذي يمثل حصاناً هائجاً بالنسبة لها كي لا يصبح  أقوى منها فيحطمها.
كانت الدولة غبية وحشا كريها، لوياثان خلق ذاكرة زاخرة بجراحات اكبر من ان يتحملها الحاضر، عذابات لجماعات لم يعترف بها، كبت لهويات متعددة عبر عقود من تبنّي نموذج "دولة امة" بمضمون قومي عروبي استبعد تقاليد الجماعات السكانية المختلفة.
فالمندائيون مثلاً وهم جماعة قديمة تقيم على ضفاف نهري دجلة والفرات منذ أكثر من ألفي سنة، يمارسون طقوسهم تحت جذوع النخيل محتفظين لنا بثقافات كانت لتندثر لولاهم.
وأقل ما يوصف ذلك بكونه"معجزة مندائية" وأقصد من ذلك أن تستمر جماعة قديمة طوال هذه القرون من دون أن تتعرض للذوبان في ثقافة الأغلبية او معتقدات الديانات السائدة.
لكن المعجزة الألفية تبخّرت بفعل الفوضى المرافقة للإحتلال، إذ سهّلت استهداف هذه الجماعة التي تحرِّم استخدام العنف حتى لحماية الذات، فتعرض أفرادها للقتل والخطف الانتهازي بسبب الاعتقاد بثرائهم المرتبط بممارسة مهنة صياغة الذهب.
هذا الاستهداف حققّ للأميركيين ماعجزت عنه ألوان الامبراطوريات التي تولّت على حكم العراق طوال ألفي عام، وكان من الأعراض الجانبية لمصل الديمقراطية الذي حقنه الأميركيون بالجسد العراقي، تعريض جماعة ألفية لخطر الانقراض، واختفاء ثقافة تمثِّل ميراثاً إنسانياً لا يمكن تعويضه.
جلست مع الشيخ "ستار جبار" رئيس الطائفة المندائية بعد اكمال جلسة تصوير في مقره الديني في الجادرية، على ضفاف نهر دجلة في بغداد، انتصب الرجل مثل ملاك قديم نازل من السماء بثيابه البيضاء المصنوعة من القطن، ينتظر تعميد رَجلي دين جدد.
 "إنها مناسبة تحدث كل عشر سنوات" قالها وهو ينقل بصره إلى الجهة الاخرى من النهر، وكأنه يتأمل أفراد طائفته المشتتين على ربوع المعمورة  ثم أضاف "لدينا الان اقل من 45 رجل دين مندائي حول العالم، وهم الوحيدون الذين يتكلمون لغتنا المندائية، لأن لغتنا طقسية ولا نمارسها في الحياة اليومية".
من أصل 15 ألف مندائي قبل الاحتلال الأميركي للعراق بقيّ اليوم بين (3-5)آلاف مندائي، حقائبهم معدّة للسفر حالما تلوح فرص اللجوء الى أي بلد أجنبي.
 وبغض النظر عن النتائج الانسانية الرهيبة لهجرة الاقليات، فإن مثال المندائيين كأقلية يرسل تحذيراً إلى أن الهجرة المستمرة  تؤدي إلى انحسار تداول لغات الأقليات وانقطاع ثقافتها وضياع ذاكرتها، ومن ثم انقراض إرادتها المشتركة وفنائها كجماعة حتى لو استمر الأفراد المشتتون في دول المنافي على قيد الحياة.
لم أكن قبل عامين اسمع عن بهائيين يعيشون بيننا قبل ان يتاح لي الاهتداء إلى أفراد يعتنقون هذه الديانة الحديثة منذ انطلاقها في أرض العراق قبل أكثر من مائة وعشرين عاماً.
 ظلّ البهائيون يعيشون في الظل منذ أن أصدر نظام البعث في العام 1971 قراراً يحرم النشاط البهائي ترتّب عليه الحكم بالسجن على عائلات بهائية بأكملها، قبل أن يعتلي صدام حسين السلطة ويغيّر القرار إلى الحكم بالإعدام في عام 1979.
اليوم، وبرغم افتخار الاميركيين بتأسيس نظام ديمقراطي في العراق، ما تزال القرارات التي تحظر البهائية سارية المفعول لعدم الغاءها وما يزال البهائيون يحملون في هوياتهم الشخصية كلمة "مسلم" في حقل الديانة، ويمارسون جلسات الدعاء داخل البيوت بعيداً عن عيون الناس، فأماكنهم المقدّسة تمت مصادرتها منذ زمن البعث ولم تعد لهم.
 الأمر الأشد إيلاماً هو استمرار الخرافات التي اطلقها البعثيون ضدهم، وتشويه السمعة جرّاء عقود من الدعاية الرسمية المبرمجة، ورفض المجتمع لهم نتيجة لذلك.
  إمرأة بهائية حُكم عليها بالسجن 15 عاماً في بداية سبعينيات القرن الماضي قالت لي "لقد كانت الزنزانة هي المكان الوحيد الذي أُطلقت فيه حريّتي، كنت أمارس الصلاة والمناجاة وأُعلن هويتي، فالجميع يعرف من أنا، ولماذا سُجنت، لكني اليزم خارج السجن اعيش في زنزانة تمتد قضبانها من السماء إلى الارض لأنني لا استطيع إعلان ديني".
 ينبغي لي أن اكون أكثر إنصافاً، فقد فعل الأميركيون أكثر من ذلك بكثير، فحين زرت البصرة وشاهدت الأعلام ترفرف برحيل القوات الأميركية، انتشرت صور لخامنئي المرشد الأعلى للثورة الاسلامية في إيران المجاورة، الانطباع المباشر إن ايران انتصرت على "الشيطان الأكبر" وهو اللقب الذي اعتاد الايرانيون إطلاقه على أميركا منذ عهد الخميني.
 أصدقائي العرب يقولون إن الأميركيين قدّموا العراق على طبق من ذهب للايرانيين، والبصرة تُطرَح في هذا السياق بوصفها مجرد ضيّعة ملحقة بدولة ولاية الفقيه.
 بعد عشر سنوات من إسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس في بغداد، افتح كشف حساب مع ذاكرة الاحتلال هل سقط التمثال فحسب؟ هل انحرفت قاطرة الديمقراطية عن مسارها في مكان ما واتخذت وجهة اخرى لتعيد انتاج دكتاتورية جديدة؟. هل ستنفرط التعددية إلى جزر جماعات منفصلة فيضيع الأصغر منها في صراع الاكبر على الأرض والثروة والنفوذ؟.
 أسئلة موجهة إلى ذاتي لا أتوقف عندها كثيراً، لانني اعتقد اننا يجب ان ابدأ من مكان ما، ربما عثرت على ذلك في الدفاع عن هذه التعددية التي لا استطيع تخيُّل العراق من دونها، إنها طريقتي للتغيير من الداخل، فمن دون الإيمان بأهمية هذه التعددية، ومن دون "الأمل" في غد أفضل يستحيل إنجاز المهمة.